أثمَرت قِمّة مجموعة العشرين عن مُنجَز كبير يتمثّل في الإعلان المفاجئ عن الممر الاقتصادي الذي يربط بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا (IMEC)، والذي أُطلِق عليه على وجه السرعة اسم «طريق التوابل» متخذاً نفس مسمى الطريق التاريخي الذي كان يستخدم لجلب التوابل والتجارة من آسيا إلى أوروبا. ويُمثّل إحياء هذا الطريق التجاري التاريخي للقرن الواحد والعشرين نجاحاً مذهلاً للهند بقيادة ناريندرا مودي، ويعتبر أيضاً خطوة دبلوماسية واقتصادية مُحفزة فيما تمضي دولة الإمارات العربية المتحدة قدماً في استضافة قمة مؤتمر الأطراف «COP28».
وفقاً لما أعلنت عنه جميع الأطراف في مذكرة التفاهم، يُدمج الممر الاقتصادي مفهوم الاستدامة في جوهر المشروع، وهو ما تُركِّز عليه إدارة الرئيس الأميركي بايدن بشكلٍ كبير. وسيتم التركيز في المشروع على انبعاثات الغازات والمحافظة على البيئة والممارسات التجارية المستدامة. ويمثل ذلك أهمية كبيرة لدولة الإمارات العربية المتحدة في الفترة التي تسبق قمة مؤتمر الأطراف، فقد تعرضت الدولة لانتقادات واسعة باعتبارها دولة منتجة للنفط تستضيف قمة الاستدامة العالمية فائقة التأثير.
ومع ذلك، فإن تواجد صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، رئيس الدولة، كضيف شرف لرئيس وزراء الهند ناريندرا مودي، فضلاً عن التعبير الشخصي والعلني عن الامتنان من قبل الرئيس الأميركي جو بايدن، يؤكدان على التناغم والتوافق مع أهداف الاستدامة لقمة الأطراف. ويشير توجيه الرئيس بايدن الشكر لصاحب السمو الشيخ محمد بن زايد ثلاث مرات وإعلانه علناً أن «لا أعتقد أننا سنكون هنا دونك» إلى أن الولايات المتحدة والإمارات قد أعادتا على الأقل تأكيد شراكتهما طويلة الأمد وتشير إلى توافق رؤية القائدين حول المستقبل.
بينما يستعد العالم للمرحلة القادمة من المفاوضات لمواجهة تحديات تغيُّر المناخ وتدهور البيئة، يُعتبر التزام الممر الاقتصادي بالتجارة المستدامة ركيزة للعمل الجماعي، ويؤكد على أهمية التجارة المستدامة على مستوى العالم.
وسيعالج الممر الاقتصادي بوضوح أوجه الضعف متعددة الأبعاد التي طالما هددت نقل الطاقة العالمية في المنطقة. ولقد تجاوزت الطاقة أهمية التوابل على طول هذا الطريق التجاري التاريخي. ويقر طريق التوابل الجديد بالدروس المستفادة لمرحلة ما بعد جائحة كوفيد-19 ويستهدف بوضوح زيادة أمن سلاسل الإمداد من خلال تحفيز تنويع الطاقة ووسائل النقل.
وأخيراً ستتم معالجة المخاطر العالمية التي يشكلها مضيق هرمز، الذي يُعتبر بلا منازع أهم نقطة عبور في العالم والذي يشهد بانتظام أكثر من 20% من نقل الطاقة العالمية عبر مياهه. حيث يقدم الممر الاقتصادي بديلاً مقنعاً من خلال الالتفاف حول المضيق، مما يُقلّل بفعالية من الاعتماد على عنق الزجاجة هذا بالنسبة للملاحة البحرية. وتتضمن خطة الممر الاقتصادي في نهاية الأمر ممرين منفصلين في الخليج العربي، ولكنه يشتمل هذه المرة على مشروعات للسكك الحديدية وربط الموانئ البحرية، إلى جانب خطوط لنقل الكهرباء والهيدروجين، وكابلات نقل البيانات المتنامية بشكلٍ كبيرٍ مما يسمح لسلاسل الإمداد الحديثة بالعمل بكفاءة متزايدة، مع ربط ما يقرب من 2 مليار شخص من الهند إلى أوروبا.
تعترف الولايات المتحدة وشركاؤها الإقليميون أخيراً بالأهمية القصوى لتنويع طرق الطاقة لدعم أمن الإمدادات.
وتفوق مساهمة الممر الاقتصادي في تنويع الطاقة مجرد إدارة المخاطر، حيث يرسم مساراً طموحاً نحو استراتيجية شاملة لأمن الطاقة. فمن خلال تنظيم مسارات ووسائل النقل البديلة، لا يقوم الممر الاقتصادي فقط بتخفيف نقاط الضعف المرتبطة بشريان نقل واحد فقط، بل يدعم أيضاً ممارسات الطاقة الأنظف والأكثر استدامة. ويتردد صدى هذا التوافق بين تنويع الطاقة والحفاظ على البيئة في رؤية الرئيس بايدن الشاملة لمواجهة تغير المناخ وتعزيز الطاقة النظيفة الصديقة للبيئة. وقد ظهر الممر الاقتصادي كخطوة استراتيجية ذكية لجميع الأطراف، مما يعزز أمن الإمداد العالمي وتقدم أهداف تنويع الطاقة بالتوازي مع الاحتياجات العالمية المعاصرة.
وفي المشهد المتطوِّر لدول مجلس التعاون الخليجي، ولا سيما السعودية والإمارات، تستغل قيادة الدولتين طريق التوابل الجديد مادياً بعد جائحة كوفيد-19 في السعي بقوة إلى تحقيق التنويع الاقتصادي. وتكمن الوعود المنتظرة من الممر الاقتصادي في قدرته على تحقيق أهدافهما في التنويع الاقتصادي بعيداً عن الاقتصادات التي تعتمد على النفط، ويشكل ذلك انطلاقة بالغة الأهمية نحو مستقبل اقتصادي أكثر تنوعاً ومرونة يفيض عبر هذا الممر. وبالنسبة للدول التي تقع على طرفي الطريق الجديد، وتحديداً الهند ودول أوروبا، فإن لدى بعضهم تقديرات بأن يتم تقليل وقت التجارة بنسبة تصل إلى 40% بين المنطقتين.
وعلاوة على ذلك، يُعزز إعلان طريق التوابل الجديد الانتصارات الدبلوماسية والاقتصادية الأخيرة التي حققتها كل من دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية من خلال انضمامهما إلى دول مجموعة البريكس (BRICS). ويعتبر ذلك تقديراً كبيراً لنجاحهما المستمر في تغيير اقتصاداتهما وتوليهما أدواراً أكثر أهمية في الاقتصاد العالمي. ويتوافق الزخم الذي تأتي به دعوتهما للانضمام إلى مجموعة بريكس بشكلٍ متميِّز مع الفرص التي يقدمها الممر الاقتصادي، مما يُعزّز مكانتهما كلاعبين عالميين ملتزمين بتنويع الاقتصاد والتنمية المستدامة.
ويقدم الإعلان عن الممر الاقتصادي لدولة الإمارات العربية المتحدة منصة فريدة للتأكيد على التأثير السياسي والاقتصادي وإبراز قوتها الناعمة، خاصة في مجال الاستدامة. وبينما تستعد دولة الإمارات لاستضافة قمة الأطراف وإظهار التزامها الثابت والدائم تجاه التنمية المستدامة، يعزز التقدير المدوي من الرئيس الأميركي الدور المحوري الذي ستلعبه هاتان الدولتان بنشاط في توجيه أجندة الاستدامة العالمية في الأشهر القادمة.
تؤسس هذه الخطوة أيضاً لاعتبار دولة الإمارات العربية المتحدة محوراً مركزياً كثاني أكبر استثمار عالمي في سلسلة القيمة في القرن الحادي والعشرين. وتعمل دولة الإمارات بالفعل كمركز لمبادرة الحزام والطريق الصينية، مما يسهل التجارة بين آسيا وأفريقيا. ويعزز الاستثمار في الممر الاقتصادي هذا الدور على طول الطرق الجديدة بين الهند وأوروبا والجيل القادم من العولمة. باختصار، يُعدُّ الممر الاقتصادي تحولاً هائلاً في المشهد الاقتصادي لأعضاء طريق التوابل، مما يمنحهم الفرصة الفعلية لتنويع اقتصاداتهم المعتمدة على النفط، وتُرسّخ وجودها على المسرح العالمي للاستدامة، وترسم مساراً نشطاً نحو مستقبل أكثر تنوُّعاً وأمناً واستدامةً للبيئة.
كاتب أميركي